الأحد، 2 يناير 2011

علم الإجتماع



أصبح من المسلم به تقريبا في مشارق الأرض ومغاربها، أن ابن خلدون هو مؤسس علم الاجتماع أو علم العمران البشري كما يسميه. وقد تفطن هو نفسه لهذه الحقيقة عندما قال في مقدمته التي خصصها في الواقع لهذا العلم الجديد: ... وهذا هو غرض هذا الكتاب الأول من تأليفنا...، وهو علم مستقل بنفسه موضوعه العمران البشري والاجتماع وأصبح الإنساني، كما أنه علم يهدف إلى بيان ما يلحقه من العوارض والأحوال لذاته واحدة بعد أخرى، وهذا شأن كل علم من العلوم وضعيا كان أم عقليا واعلم أن الكلام في هذا الغرض مستحدث الصنعة غريب النزعة غزير الفائدة، أعثر عليه البحث وأدى اليه الغوص... وكأنه علم مستبط النشأة، ولعمري لم أقف على الكلام في منحاه لأحد من الخليقة. المقدمة
ويبدو واضحا ان اكتشاف ابن خلدون لهذا العلم قاده اليه منهجه التاريخي العلمي الذي ينطلق من أن الظواهر الاجتماعية تخضع لقوانين ثابتة وأنها ترتبط ببعضها ارتباط العلة بالمعلول، فكل ظاهرة لها سبب وهي في ذات الوقت سبب لللظاهرة التي تليها. لذلك كان مفهوم العمران البشري عنده يشمل كل الظواهر سواء كانت سكانية أو ديمغرافية،اجتماعية، سياسية، اقتصادية أو ثقافية. فهو يقول في ذلك :فهو خبر عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم وما يعرض لطبيعة هذا العمران من الأحوال مثل التوحش والتأنس والعصبيات وأصناف التغلبات للبشر بعضهم على بعض، وما ينشأ عن الكسب والعلوم والصنائع وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال. المقدمة،وهنا يلامس أيضا نظرية النشوء والارتقاء لدى داروين وان لم يغص فيها. ثم أخذ في تفصيل كل تلك الظواهر مبينا أسبابها وتنائجها، مبتدئا بأن بإيضاح أن الإنسان لا يستطيع العيش بمعزل عن أبناء جنسه حيث: ان الاجتماع الإنساني ضروري فالإنسان مدني بالطبع أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدنية... وهو معنى العمران.
ثم تعرض للعمران البشري على العموم مبينا أثر البيئة في الكائنات البشرية وهو مايدخل حاليا في علم الاتنولوجيا والانثروبولوجيا. ثم بعد ذلك تطرق لأنواع العمران البشري تبعا لنمط حياة البشر وأساليبهم الإنتاجية قائلا: ان اختلاف الأجيال في أحوالهم انما هو باختلاف نحلتهم في المعاش. مبتدئا بالعمران البدوي باعتباره أسلوب الإنتاج الأولي الذي لا يرمي إلى الكثير من تحقيق ما هو ضروري للحياة ...ان اهل البدو المنتحلون للمعاش الطبيعي... وانهم مقتصرون على الضروري الاقوات والملابس والمساكن وسائر الأحوال والعوائد. المقدمة
ثم يخصص الفصل الثالث من المقدمة للدول والملك والخلافة ومراتبها وأسباب وكيفية نشوئها وسقوطها، مؤكدا أن الدعامة الأساسية للحكم تكمن في العصبية. والعصبية عنده أصبحت مقولة اجتماعية احتلت مكانة بارزة في مقدمته حتى اعتبرها العديد من المؤرخين مقولة خلدونية بحتة، وهم محقون في ذلك لأن ابن خلدون اهتم بها اهتماما بالغا إلى درجة أنه ربط كل الأحداث الهامة والتغييرات الجذرية التي تطرأ على العمران البدوي أو العمران الحضري بوجود أو فقدان العصبية. كما أنها في رأيه المحور الأساسي في حياة الدول والممالك. ويطنب ابن خلدون في شرح مقولته تلك، مبينا أن العصبية نزعة طبيعية في البشر مذ كانوا، ذلك أنها تتولد من النسب والقرابة وتتوقف درجة قوتها أو ضعفها على درجة قرب النسب أو بعده. ثم يتجاوز نطاق القرابة الضيقة المتمثلة في العائلة ويبين أن درجة النسب قد تكون في الولاء للقبيلة وهي العصبية القبلية ... ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نصرة كل أحد من أحد على أهل ولائه وحلفه للألفة التي تلحق النفس في اهتضام جارها أو قريبها أو نسيبها بوجه من وجوه النسب، وذلك لأجل اللحمة الحاصلة من الولاء. أما إذا أصبح النسب مجهولا غامضا ولم يعد واضحا في أذهان الناس، فإن العصبية تضيع وتختفي هي أيضا. ... بمعنى أن النسب إذا خرج عن الوضوح انتفت النعرة التي تحمل هذه العصبية، فلا منفعة فيه حينئذ. هذا ولا يمكن للنسب أن يختفي ويختلط في العمران البدوي، وذلك أن قساوة الحياة في البادية تجعل القبيلة تعيش حياة عزلة وتوحش، بحيث لا تطمح الأمم في الاختلاط بها ومشاركتها في طريقة عيشها النكداء، وبذلك يحافظ البدو على نقاوة أنسابهم، ومن ثم على عصبيتهم.
... الصريح من النسب انما يوجد للمتوحشين في القفر... وذلك لما اختصوا به من نكد العيش وشظف الأحوال وسوء الموطن، حملتهم عليها الضرورة التي عينت لهم تلك القسمة... فصار لهم ألفا وعادة، وربيت فيهم أجيالهم... فلا ينزع اليهم أحدا من الأمم أن يساهم في حالهم، ولا يأنس بهم أحد من الأجيال... فيؤمن عليهم لأجل ذلك منت اختلاط انسابهم وفسادها. أما إذا تطورت حياتهم وأصبحوا في رغد العيش بانضمامهم إلى الأرياف والمدن، فإن نسبهم يضيع حتما بسبب كثرة الاختلاط ويفقدون بذلك عصبيتهم. ... ثم يقع الاختلاط في الحواضر مع العجم وغيرهم وفسدت الانساب بالجملة ثمرتها من العصبية فاطرحت ثم تلاشت القبائل ودثرت فدثرت العصبية مدثورها وبقي ذلك في البدو كما كان. وهكذا نخلص للقول في هذا الصدد بأن العصبية تكون في العمران البدوي وتفقد في العمران الحضري

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق